فصل: (سورة لقمان: الآيات 6- 7).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل في ذكْر بعض ما رُوي منْ حكَم لُقمان:
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزّان الأصفهاني، عن أحمد بن شاذان، عن جيغويه بن محمد عن صالح بن محمد عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن عجلان قال: قال لقمان: ليس مال كصحّة، ولا نعيم كطيب نفس.
وأخبرنا أبو عبدالله الحسين بن محمد الدينوري، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، عن محمد بن عبد الغفّار الزرقاني، عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن حفص عن عمّه أبي زجر بن حصن، عن جدّه حميد بن منهب قال: حدّثني طاووس، عن أبي هريرة قال: مرَّ رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال: ألستَ بالعبد الأسود الذي كُنتَ راعيًا موضع كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي، عن عبدالله ابن أحمد بن حنبل، عن أُبيّ، عن وكيع قال: أخبرني أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدًا حبشيًّا نجّارًا، فقال له سيّده: اذبح لنا شاة، فذبح له شاة، فقال له: ائتني بأطيب المضغتين فيها، فأتاه باللسان والقلب. فقال: ما كان فيها شيء أطيب من هذا؟ قال: لا، قال: فسكت عنه ما سكت، ثمّ قال له: اذبح لنا شاة، فذبح شاة، فقال: ألق أخبثها مضغتين، فرمى باللسان والقلب، فقال: أمرتك أنْ تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللّسان والقلب وأمرتك أنْ تلقي أخبثها مضغتين فألقيتَ اللسان والقلب؟ فقال: لأنّه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا.
وأخبرني الحسين بن محمد، عن أحمد بن جعفر بن حمدان، عن يوسف بن عبدالله عن موسى ابن إسماعيل، عن حمّاد بن سلمة، عن أنس أنّ لقمان كان عند داود عليه السلام وهو يسرد درعًا فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى، ويريد أن يسأله، ويمنعه حكمه عن السؤال، فلمّا فرغ منها وجاء بها وصبها قال: نعمَ درع الحرب هذه فقال لقمان: إنّ من الحكم الصمت وقليل فاعله.
وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي قال: أخبرني أبو أُسامة ووكيع قالا: أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة قال: كان لقمان من أهون مملوكيه على سيّده. قال: فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره، فجاؤوا وليس معهم شيء، وقد أكلوا الثمر، وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه: إنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينًا، فاسقني وإيّاهم ماءً حميمًا ثمّ أرسلنا فلْنعدُ، ففعل، فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماءً، فعرف صدقه وكذبهم.
قال: أوّل ما روي من حكمته، أنّه بينا هو مع مولاه، إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونًا، وقم هونًا، قال: فخرج وكتب حكمته على باب الحش.
قال: وسكر مولاه يومًا فخاطر قومًا على أن يشرب ماء بحيرة، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال: لمثل هذا كنتُ اجتبيتك، فقال: اخرج كرسيّك وأباريقك ثمّ اجمعهم، فلمّا اجتمعوا قال: على أيّ شيء خاطرتموه؟ قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة، قال: فإنّ لها موادَّ احبسوا موادّها عنها، قالوا: وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها؟ قال لقمان: وكيف يستطيع شربها ولها موادّ؟!
وأخبرني الحسين بن محمد، عن عبيدالله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد بن ماهان، عن علي بن محمد الطنافسي قال: أخبرني أبو الحسين العكلي عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، عن داود بن عمر، عن إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر، فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت أمري. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت. قال: جدَّدَ فراشي، قال: ما فعلت أُختي؟ قال: ماتت، قال: ستَرَ عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، عن أبي، عن سفيان قال: قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ قال: الذي لا يبالي أنْ يراه الناس مسيئًا. وقيل للقمان: ما أقبح وجهك قال: تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السماوات وَمَا في الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ}.
قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيّوب وحفص {نعَمَهُ} بالجمع والإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو معاذ النحوي وأبو حاتم، وقرأ الآخرون منُوّنة على الواحد ومعناها جمع أيضًا، ودليله قول الله عزّ وجلّ: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقال مجاهد وسفيان: هي لاَ إلهَ إلاّ الله، وتصديقه أيضًا ما أخبرني أبو القاسم الحبيبي أنّه رأى في مصحف عبدالله {نعْمَتَهُ} بالأضافة والتوحيد {ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} اختلفوا فيها فأكثروا. فقال ابن عبّاس: أمّا الظاهرة فالدين والرياش، وأمّا الباطنة فما غاب عن العباد وَعَلمَهُ الله.
مقاتل: الظاهرة تسوية الخَلق والرّزق والإسلام، والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها. الضحّاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة المغفرة. القرظي: الظاهرة محمّد صلى الله عليه وسلم والباطنة المعرفة. ربيع: الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب. عطاء الخراساني: الظاهرة تخفيف الشرائع، والباطنة الشفاعة. مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء، والباطنة الإمداد بالملائكة.
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش، قال: أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب، عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال: أخبرني أبو مالك الجبنى، عن جويبر، عن الضحاك قال: سألت ابن عبّاس عن قول الله عزّ وجلّ: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} فقال: هذا من محرزي الذي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: «يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال: أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق، وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك، يابن عبّاس يقول الله تعالى: إنّي جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أُكفّر به عن خطاياه، وجعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم».
وقال محمّد بن علي الترمذي: النعمة الظاهرة: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعْمَتي} [المائدة: 3] والباطنة قوله: {وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلام دينًا} [المائدة: 3].
الحرث بن أسد المحاسبي: الظاهرة نعيم الدنيا، والباطنة نعيم العقبى. عمرو بن عثمان الصدفي: الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع.
وقيل: الظاهرة الجزاء، والباطنة الرضا. سهل بن عبدالله: الظاهرة إتباع الرسول، والباطنة محبّته. وقيل: الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر. وقيل: الظاهرة التبيين، بيانه قوله تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضلُّوا} [النساء: 176] {وَيُبَيّنُ آيَاته للنَّاس} [البقرة: 221] والباطنة التزين قوله: {وَزَيَّنَهُ في قُلُوبكُمْ} [الحجرات: 7] وقيل: الظاهرة الرزق المكتسب، والباطنة الرزق من حيث لا يُحتسب.
وقيل: الظاهرة المدخل للغذاء، والباطنة المخرج للأذى. وقيل: الظاهرة الجوارح، والباطنة المصالح. وقيل: الظاهرة الخَلق، والباطنة الخُلق. وقيل الظاهرة التنعيم، بيانه قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ} [الحمد: 7] والباطنة التعليم. قوله: {وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] وقيل: الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء، وقيل الباطنة: ما طوي وزوي من أنواع البلاء، وقيل: الظاهرة الدعوة، بيانه قوله: {والله يدعوا إلى دَار السلام} [يونس: 25] والباطنة الهداية. بيانه قوله: {وَيَهْدي مَن يَشَاءُ} [يونس: 25].
وقيل: الظاهرة الإمداد بالملائكة، والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفّار، وقيل: الظاهرة تفصيل الطاعات، وهو أنّه ذكَر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها، بيانه قوله: {التائبون} [التوبة: 112] وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] وقوله: {إنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية. والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنّه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدّها وتفصيلها، بيانه قوله: {وتوبوا إلَى الله جَميعًا أَيُّهَ المؤمنون} [النور: 31] وقيل: الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار، والباطنة إحياء الأقطار والأمصار.
وقيل: الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءات، وقيل: الظاهرة ذكر اللسان، والباطنة ذكر الجنان، وقيل: الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته. وقيل: الظاهرة ضياء النهار للتصرّف والمعاش، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار. وقيل: الظاهرة النطق، والباطنة العقل، وقيل: الظاهرة نعَمَهُ عليك بعدما خرجت من بطن أُمّك، والباطنة: نعَمَهُ عليك وأنت في بطن أُمّك.
وقيل: الظاهرة الشهادة الناطقة، والباطنة السعادة السابقة. وقيل: الظاهرة ألوان العطايا، والباطنة غفران الخطايا. وقيل: الظاهرة وضع الوزر ورفع الذّكر، والباطنة شرح الصدر.
وقيل: الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممّن خالفك، وقيل: الظاهرة المال والأولاد، والباطنة الهدى والارشاد، وقيل: الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد، وقيل: الظاهرة ما يكفّر الله به الخطايا من الرزايا والبلايا، والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى، وقيل: الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار، والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار، وقيل: الظاهرة العلوّ بيانه قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] والباطنة الدنوّ بيانه قوله: {أولئك المقربون} [الواقعة: 11].
قوله: {وَمنَ الناس مَن يُجَادلُ في الله بغَيْر علْمٍ} نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أنّ الملائكة بنات الله {وَلاَ هُدَىً وَلاَ كتَابٍ مُنير وَإذَا قيلَ لَهُمْ اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه آبَاءَنَا}.
قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ} قال الأخفش: لفظه استفهام ومعناه تقرير، وقال أبو عبيدة: لو هاهنا متروك الجواب مجازه أَوَلَو كَانَ {الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَاب السعير} أي موجباته فيتبعونه. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة لقمان مكية، إلا الآيات 72 و28 و29 فمدنية، وآياتها 34 وقيل 33، نزلت بعد الصافات.
بسْم اللَّه الرَّحْمن الرَّحيم.

.[سورة لقمان: الآيات 1- 5].

{الم (1) تلْكَ آياتُ الْكتاب الْحَكيم (2) هُدىً وَرَحْمَةً للْمُحْسنينَ (3) الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بالْآخرَة هُمْ يُوقنُونَ (4) أُولئكَ عَلى هُدىً منْ رَبّهمْ وَأُولئكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ (5)}.
الْكتاب الْحَكيم ذى الحكمة. أو وصف بصفة اللّه تعالى على الإسناد المجازى. ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحال عن الآيات، والعامل فيها:
ما في تلك من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف للْمُحْسنينَ للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس:
الألمعى الذي يظن بك الظّنّ ** كأن قد رأى وقد سمعا

إن الذي جمع السماحة ** والنجدة والبر والتقى جمعا

الألمعى الذي يظن بك ** الظن كأن قد رأى وقد سمعا

أودى فلا تنفع الاشاحة ** من أمر لمن يحاول البدعا

لأوس بن حجر، يرثى فضالة بن كلدة. يقول: يا نفس احتملي جزعا عظيما، إن الذي تخافين منه قد حصل، وبينه بقوله: إن الذي جمع المكارم كلها أودى، أي: هلك. وجمع- بالضم: توكيد للصفات قبله. والألمعى:
نصب على الصفة للذي، وفسره بأنه الذي يظن بك، يعنى كل مخاطب، أي: يظن الظن الحق، كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب، كأنه قد رآه إن كان فعلا، أو سمعه إن كان قولا. وفيه نوع من البديع يسمى التفسير، وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته بدون تفسيره، ذكره السيوطى في شرح عقود الجمان. والاشاحة:
الشجاعة والجد في القتال. وضمن تنفع معنى تحفظ فعداه بمن، أي: فلا تحفظ الشجاعة من مكروه أحدا.
وعداه باللام، نظرا للفظه. والأقرب أن من واللام زائدتان لتوكيد الكلام، أي: فلا تنفع الاشاحة شيئا من النفع أحدا من الناس يحاول ويطلب بدائع الأمور وعظائمها، يعنى: أن فضالة كان كذلك فمات، وفيه نوع تسل. [..].
حكى عن الأصمعى: أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل اعتداد بها.

.[سورة لقمان: الآيات 6- 7].

{وَمنَ النَّاس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث ليُضلَّ عَنْ سَبيل اللَّه بغَيْر علْمٍ وَيَتَّخذَها هُزُوًا أُولئكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهينٌ (6) وَإذا تُتْلى عَلَيْه آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا فَبَشّرْهُ بعَذابٍ أَليمٍ (7)}.
اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى ولَهْوَ الْحَديث نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشترى المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ» وعنه صلى اللّه عليه وسلم: «ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث اللّه عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت» وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت: معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز، وباب ساج. والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله يَشْتَري إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالْإيْمان أي استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ: ليُضلَّ بضم الياء وفتحها.
وسَبيل اللَّه دين الإسلام أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه.
والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله بغَيْر علْمٍ؟ قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق.
ونحوه قوله تعالى: {فَما رَبحَتْ تجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدينَ} أي: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها: وقرئ: {وَيَتَّخذَها} بالنصب والرفع عطفا على يشترى. أو ليضل، والضمير للسبيل، لأنها مؤنثة، كقوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبيل اللَّه مَنْ آمَنَ به وَتَبْغُونَها عوَجًا}.
{وَلَّى مُسْتَكْبرًا} زاما لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع {كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا} أي ثقلا ولا وقر فيهما، وقرئ: بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من مستكبرا والثانية من لم يسمعها: ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في كأن المخففة: كأنه، والضمير: ضمير الشأن.